قال ابن حجر في فتح الباري:
>وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور [لا نورث ما تركنا صدقة] فلاعتقادها[ سلام الله عليها] تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله لا نورث، ورأت أن منافع ما خلّفه من أرض وعقار، لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل<([4]).
الجواب: قوله: إنّ الزهراء اعتقدت تخصيص العموم، والاختلاف بينهما هو في أمر محتمل. باطل من وجهين:
الأول: إن هذا الكلام هو من مختلقات ذهن ابن حجر وهو أول الكلام. فالزهراء÷ لم تقبل أصل هذا الحديث من أول الأمر، فلا تـأويل ولا احتمال في البين، ولا نعرف من أين فهم ابن حجر هذا التخصيص؛ لذا عارضته÷ بالآيات القرآنية مما يدل على رفضها له، ومن الآيات التي استشهدت بها:
1ـ قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ([5]).
2ـ قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * رِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}([6])
3ـ قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}([7]).
4ـ قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}([8]).
5ـ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}([9]).
6ـ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}([10]).
إذن هذه الآيات دليل رادع وواضح على أن الأنبياء يرثون، ويورّثون لا كما يُدعى من رواية أبي بكر المتقدمة.
الثاني: خطبتها÷ تفنّد هذه الدعوة حيث قالت:
>ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فرياً...أفخصكم بآية أخرج أبي منها؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي<([11]).
فلو تأملنا واستنطقنا هذه الكلمات الشريفة، لاندفع هذا الإشكال من أساسه، ولا يبقى لتأويل ابن حجر موضوع؛ بل يمكن القول: إنّ هذا الحديث برمته الذي تحدث به أبو بكر نفسه لا مصداقية له.
وتحليل كلامها÷ هو كالتالي:
أـ إنّ كلام أبي بكر (زعم) ليس إلا، أي ينقصه الدليل.
ب ـ وهذا الزعم لا ينطلق من علم، ولا ينطبق مع أحكام الله تعالى؛ بدليل أنّك ترث من أبيك, فلماذا لا تكون الوراثة من رسول الله@ لابنته، وهو أمر وارد ولا محذور فيه، وقد أشارت الزهراء÷ إلى تلك الأدلة كما أثبتناه في استدلالها بالقرآن الكريم.
ج ـ عدم علمكم وجهلكم بعموم القران وخصوصه.وهذا هو منشأ ما ارتكبتموه بحقنا، فأبي وزوجي هم أهل القرآن، وهم أدرى بما فيه.
ومعلوم بالبداهة أن الزهراء هي المعصومة ولا تنطق عن جهل وحاشاها من ذلك. إذن كلامها÷ واضح في إنكار أصل هذا الحديث، فهو ساقط ولا يمكن الاحتجاج به.
الأدلة على سقوط حديث أبي بكر
ومن الأدلة على سقوط هذا الحديث (لا نورث ما تركنا صدقة):
1ـ معارضته لصريح القرآن الكريم، التي دلّت آياته بوضوح على الإرث، وأن الأنبياء يرثون ويورّثون، كما تقدم في احتجاج الزهراء÷ بالآيات الآنفة الذكر.
2ـ الإرث من المسائل المهمة في الفقه الإسلامي، ورسول الله’ هو المشرع والمقنن لهذه الأحكام، وعدم الوراثة له، لابد أن يوليها الرسول اهتماما كبيراً؛ لأنه يعلم أن هناك من يطالب بالإرث بعد وفاته’، فلابد من إشاعة هذا الحكم بين أهل بيته وزوجاته وأصحابه، في حين إننا لم نجد شيوع هذا الخبر بينهم سوى أبي بكر فقط. فهو الناقل الوحيد لهذا الحديث.
3ـ تواتر الأحاديث بحب الرسول’ لبضعته الطاهرة، وقد أفرد ابن حبان وأحمد بن حنبل والنسائي فصولاً في هذه المسألة، حينئذ نسأل: هل يعقل أن رسول الله’ لم يخبر بضعته بهذا الحكم الشرعي، مع أن هذا الحديث مرتبط بها بشكل مباشر، بل هي المصداق الأبرز له، فكيف لا يخبرها ويجنبها المتاعب.
4ـ لو فتشنا في تأريخ الأنبياء^، لم نجده يحدثنا عن أنهم لم يرثوا شيئاً وأن ما تركوه فهو صدقة، فلو كان الأمر كذلك لوصل شيء من ذلك ولعرفه أهل الأديان الأخرى، وذُكر في كتبهم؛ مع أننا لم نجد شيئاً من ذلك.
5ـ لو كان ما نسبه أبو بكر إلى الرسول’ صحيحاً، فلماذا غضبت عليه الزهراء÷، والتي قال عنها الرسول @: من أغضبها فقد أغضبني، ولم تكلم أبا بكر حتى توفيت. كما روى ذلك البخاري في صحيحه.
6- شهادة أمير المؤمنين والحسن والحسين^ إلى جانب الزهراء÷ في احتجاجها مع أبي بكر.
فنسأل حينئذ إذا كانت الصدقات محرّمة عليهم، فهل أن الإمام وزوجته وولديه يأكلون الحرام الذي هو ملك للفقراء؟
أليس هم أهل بيت طهرهم الله من الذنوب بحكم آية التطهير, أليس هم ثقل القرآن، بحكم حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين؟أليس هم المخصوصين بآية المباهلة, وغيرها من الآيات والأحاديث الشريفة.
إذن وقوف علي وولديه# وشهادتهم لها÷ دليل على كذب هذا الحديث ووضعه.
7ـ ينقل لنا ابن أبي الحديد في شرح النهج، قوله:
>وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته.
قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء؛ لأنه يكون قد سجل على نفسه أنها صادقة فيها تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود.
ثم يقول ابن أبي الحديد: وهذا كلام صحيح. وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل<([12]).
إذن كلام ابن حجر ودفاعه يخلو من الموضوعية، ولعل من تجرد عن العصبية لوجد الحق واضحاً لا مرية ولا شك فيه.
([4]) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، ج6 ص140. الناشر: دار المعرفة، بيروت.
([5]) النمل/16.
([6]) مريم/5-6.
([7]) الأنبياء/89-90.
([8]) الأحزاب/6.
([9]) النساء/11.
([10]) البقرة/180.
([11]) شرح نهج البلاغة، ج16 ص212.
([12]) شرح نهج البلاغة، ج16 ص284. الفصل الثالث: في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله لفاطمة